• اخر الاخبار

    هـكـذا كـــان يـــومي: 14 جانفي 2011

    أحدى الصور التي ألتقطتها في ذلك اليوم

    استيقظتُ يوم الجمعة 14 جانفي2011 في حدود الساعة السابعة و النصف صباحًا، ارتديتُ ملابسي على عجل، و أنا أحاولُ أن لا أوقظ أي أحد من أفراد العائلة، لأني كنت أعرف أنهم سيعارضون بشدة ذهابي إلى تونس في ذلك اليوم، ثم خرجتُ مُتسللاً.


    قمتُ بعد خروجي بالاتصال بصديقي مهدي الذي تواعدتُ معهُ على الذهاب إلى تونس، لكنهُ لم يجبني، ثم هاتفني و أنا في طريقي لمحطة سيارات الأجرة (اللواجات) ليسألني هل وصلت أم لا فأخبرتهُ بأنني في مُنتصف الطريق.


    وصلت إلى محطة اللواجات، فوقفت بجانب أحد الأكشاك و أنا أقوم بجولة سريعة على الجرائد الصادرة في ذلك اليوم، التي كانت كلها تمجد بالبند العريض خطاب رئيس الدولة التاريخي الذي ألقاهُ في الليلة الماضية.


    كانت الحركة تبدو شبه طبيعية في ذلك اليوم، و كان البعض يعتقد أن خطاب الرئيس قد هدأ الأمور، لكن الحقيقة كانت غير ذلك.
    وصل مهدي مُتأخرًا، ليخبرني فيما بعد أنهُ لم ينجح في التسلل من منزلهم كما فعلتُ أنا، فقد تفطن لهُ والدهُ الذي حاول أقناعهُ بعدم الذهاب إلى تونس يومها.


    هكذا إذن أخذنا اللواج عندما كانت الساعة تشير تقريبًا إلى الثامنة و النصف، بدا الطريق من بني خلاد إلى تونس يومها بالنسبة لي غير عادي و أنا الذي أقطعهُ تقريبًا يوميًا، فلم يكن يوجد أي شرطي أو حرس مرور، و حتى مراكز الشرطة و الحرس التي مررنا بها كان الأعوان مُكدسين أمام أبواب مراكزهم، بينما كانت مجموعات من الناس تتجمهر أمام بعض البنوك و المحلات التي تعرضت للتهشيم و النهب.


    بعد وصولنا إلى محطة باب عليوة اتفقنا على ما يجب قولهُ، إذا استوقفنا أي من أعوان الشرطة، "نحن ذاهبين إلى منزلنا في حي البساتين" لماذا البساتين؟ لا أعلم.


    وصلنا إلى تونس التي بدت فيها الأمور أكثر هدوءً من الأيام الماضية، على الأقل بجهة باب الفلة، و لأن المُظاهرة بساحة محمد علي كان من المُقرر أن تبدأ في حدود الحادي عشرة فقد قررنا أخذ فنجان قهوة فالساعة كانت تشير إلى التاسعة و النصف تقريبًا


    مرت من أمامنا و نحن نتناول فنجان القهوة على قارعة الطريق مجموعة من الشرطيين على درجات نارية، و رغم مظهرهم المُخيف، فقد كانت تقريبًا المرة الأولى التي ننظُر فيها إليهم بدون خوف و بتحدي، و قد بدا على وجوههم نوع من اهتزاز الثقة
    .
    تناولنا إذن قهوتنا على عجل فقد كانت الرغبة شديدة في الوصول إلى ساحة مُحمد علي، قبل أن يتم إغلاق جميع الطرق المؤدية إليها، مُحاولينا تتبع الأزقة الخلفية كي لا تستوقفنا الشرطة.


    بعد أن قطعنا شارع الحبيب بورقيبة، و مشينا قليلاً في أحد الأزقة في اتجاه النهج الذي يفتح على ساحة العملة التقينا مُباشرةً مع المُظاهرة، فانضممنا إليها و الحناجرُ تهتف "خبز و ماء وبن علي لا" إلى غير ذلك من الشعارات التي تهتف بسقوط بن علي.
    حاولت الشرطة منعنا من دخول شارع الحبيب بورقيبة من خلال حاجز بشري مُكون من مئات الشرطيين، و قد كُنت في تلك اللحظة في الصف الأمامي المواجه مُباشرةً للشرطة، عندما بدأ ضغط المُتظاهرين يتزايد...، حتى تكسر ذلك الطوق و تكسر معهُ أسطورة الديكتاتورية.


    كنتُ من بين الأوائل الذين ركضوا في شارع الحبيب بورقيبة بعد تكسر ذلك الطوق، كنت أصيح في حالة هيستيرية أو في حالة من النشوة "هيا تقدموا...لا تتوقفوا...بسرعة...بسرعة قبل أن تتمكن الشرطة من إعادة تطويقنا مرةً أخرى
    .
    في تلك اللحظات ضاع عن ناظري مهدي الذي وجدتهُ بعد حين، سرنا وسط الحبيب بورقيبة بينما كانت المُظاهرة تزداد ضخامةً، رغم أن بعض الأشخاص الواقفين أمام البالمريوم لازالوا مترددين في الانضمام إلينا.


    كنا من بين العشرات الأوائل الواصلين إلى واجهة وزارة الداخلية، و أظن أن لدينا العديد من الصور الآن في هذه الوزارة، فقد أرهق شرطيان أظن أنهما من المصلحة الفنية نفسيهما في التقاط الصور لنا من فوق سطح هذه الوزارة، بينما كنا نلوحُ لهم في استهزاء.


    أزداد توافد المُتظاهرين، و تنوعت الشعارات المُطالبة بسقوط بن علي و نظامه، رأيتُ في وجوه المحيطين بي إصرارًا كبيرًا و طوقًا للحرية، كانوا رجالاً، نساءً، من جميع الأعمار و المستويات...كنا نتبادل الحوار مع الجميع، تصلنا بين الفينة و الأخرى قوارير مياه صغيرة نشربُ منها قليلاً ثم نمررها، و نعودُ للصياح "الشعب يريد إسقاط النظام"، "فهمتنا ما فهمتناش بن علي ما تلزمناش" و بطبيعة الحال "إذا الشعبُ يومًا أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر"...


    كانت لحظات تاريخية لا يمكن أن أنساها ما حييت، كنت أصيح بكل قوة كالمجنون في مشهد مضحك بعض الأحيان "تونس حرة...تحيا تونس حرة"، كنت أقول لصديقي مهدي "يمكنني أن أموت الآن و أنا سعيد".


    مرت الساعات و بدأنا نُحس بتعب و عطش شديد، عندها قررنا الخروج من المظاهرة، و الذهاب لاقتناء بعض الأكل و قوارير المياه، لكننا فوجئنا بأن غالبية المحلات مُغلقة، ولم يكن هناك إلا مطعم صغير مفتوح في أحد الأزقة المقابلة لشارع الحبيب بورقيبة، لكنهُ كان مُكتظاَ فقررنا الاكتفاء بقطعتي الحلوة التي كنت أحملهما.


    جلسنا على قارعة الطريق في شارع الحبيب بورقيبة مقابل الوزارة بنية نيل قسط من الراحة، ثم العودة من جديد إلى قلب المُظاهرة، وبينما كنت أسأل أحد الصحفيين الأجانب ممازحًا عن رأيه في المظاهرة و هل قام بالتقاط جميع الصور؟ لاحظنا قدوم سيارة قامت بخرق صفوف المُتظاهرين باتجاه الساعة أين كانت الشرطة تشكلُ طوقًا، لم أعرف عندها هوية هذه السيارة التي عرفنا فيما بعد أنها كانت تحمل نعش أحد الشهداء.


    المهم و مع قدوم هذه السيارة تم إطلاق أول القنابل المسيلة للدموع، و التي سقطت واحدة من بينها بجانبنا مُباشرةً، فركضنا كما ركض عدد هام من المتظاهرين في اتجاه البساج، وبعض قوات الشرطة على يميننا ويسارنا، فقابلني مباشرةً أحد الشرطيين و هو يقول: "إلى الأمام إلى الأمام...ما توقفش"، فقلت لهُ و أنا في حالة غضب شديد " ...لأخر لحظة مازلتُ أتدافعوا عليه..."


    وصلنا إلى ساحة الجمهورية فوقفنا نسترد أنفاسنا، و أقتنينا قارورة مشروبات غازية "على ما ياتي" كما قلنا مازحين، ثم عدنا أدراجنا باتجاه باب عليوة، و لكن بمجرد أن قطعنا شارع الحبيب بورقيبة على مستوى باب بحر، إذ انطلقت خلفنا مجموعة من البوب بعصيها و قنابلها المسيلة للدموع التي سقطت أحداها أمامي مُباشرةً، فشعرتُ و أنا أركض بإختناق شديد، و دموع مُحرقة تنهمر من عينيا، صاح مهدي "دُور دُور..." فأنعرجنا نحو أحد الأزقة الجانبية حيثُ قابلنا كذلك أحد الشبان يغسلُ وجههُ بمشروب غازي، و هو الأمر الذي فعلتهُ أنا أيضًا، و بينما نحن كذلك كنا نسمع صوت بعض الطلقات النارية...


    هكذا إذن قررنا أن نسير عبر الأزقة الخلفية، بل ذهبنا حتى مونفلري، ثم نزلنا في اتجاه باب عليوة، فقابلنا مجموعة من الشبان يقومون بالسطو على مركز الحجز البلدي للدرجات النارية، بينما كان آخرون يحاولون الاستيلاء على مسجلات سيارات موظفي المُستشفى العسكري...


    وصلنا إلى محطة سيارات الأجرة بباب عليوة فلم نجد أي سيارة، و كانت غالبية السيارات الداخلة إلى المحطة تقول أن الطريق مقطوع بسبب المظاهرات و أعمال النهب و لا يمكنها الرجوع...بعد انتظار طويل و مكالمات هاتفية عديدة مع العائلة و الأصدقاء الذين كانوا يسألون عن أحوالنا وصلت أحدى سيارات الأجرة المتوجهة إلى الحمامات، التي وافقت أن تقلنا إلى قرمبالية على أن ندفع أجرة الحمامات، وافقنا على هذا العرض فلم يكن لنا خيار أخر.


    انطلقت السيارة بينما كان سائقها الشاب، يحاولُ إيجاد طُرق أمنة و غير مقطوعة، فكنا نسير من نهج إلى أخر حتى وصلنا إلى الطريق الرئيسي، كنا نرى بين الفينة و الأرى ما أسميتهم أنا "جرذان الأرض" الذين لا أعرفوا من أين خرجوا يقومون بالسطو على أحد المحلات...كان الدخان المتصاعد من أماكن مُختلفة نذير شؤم، نذير رأيناهُ يتصاعد بشدة من مدينة قرمبالية، كما كانت السيارات القادمة في الطريق المعاكس تتوقف لإنذارنا بأن الوضيع خطير جدًا بالمدينة، و لا يمكننا مواصلة المسير، و قد كانت من بين هذه السيارات و لحسن حظنا يومها، واحدة لشخص أعرفهُ، فصعدنا معهُ مواصلين المسير إلى بني خلاد عبر الطرق الخلفية
    .
    وصلنا إلى المدينة التي كانت في حالة استنفار قصوى، استعدادا لحمايتها من أي اعتداء، قيل أن بعض المجموعات ستقوم به. تركتُ صديقي مهدي على أمل أن نُعيد الكرة في اليوم الموالي.


    وصلتُ إلى المنزل في حدود الساعة الخامسة، بينما كانت الأخبار تتوالى عن السرقات و أعمال التخريب في المدن المجاورة، بينما كان مُمكنًا مشاهدة الدخان الكثيف المتصاعد من إدارة الكهرباء و الغاز البعيدة نحو 6 كلم عن منزلنا.


    كانت قناة الجزيرة تنقلُ ما يحدث أولاً بأول، بينما كُنت أنا في حالة غريبة من الحزن الكبير و الأمل، كنتُ لا أجدُ صوتي، و أنا أحاولُ الرد على والدي الذي كان كذلك في حالة من الحزن و الغضب الشديدين، و هو يقولُ لي "...عجبكم هكة...أرتحتوا توه...".


    تسمرنا جميعًا أمام الجزيرة بينما كانت الأخبار تتواتر عن مغادرة الرئيس للبلاد، ثم انتظرنا البيان التاريخي الذي أعلن عنهُ التلفزيون التونسي، كنا ننتظر ظهور رشيد عمار، فإذ هو الغنوشي و بجانبه فؤاد المبزع و القلال يقرأ علينا ذلك البيان مؤكدًا أن توليه لمنصب رئيس الجمهورية هو بصفة وقتية...كان بيانًا مفرحًا من جهة لأننا تأكدنا بأن زمن بن علي قد انتهى، و لكنهُ كان كذلك مُخيبًا للآمال و وائدًا لفرحتنا بهذه الثورة العظيمة.


    2011/02/14
    الكيخوتي
    • تعليقات بلوجر
    • تعليقات الفيس بوك

    2 comments:

    Item Reviewed: هـكـذا كـــان يـــومي: 14 جانفي 2011 Rating: 5 Reviewed By: @HosQuijote_الكيخوتي
    إلى الأعلى