• اخر الاخبار

    بين محاكم تفتيش القرن السابع عشر في تونس و محاكم تفتيش 2011


    حقًا كم هو غريبٌ هذا الشيء الذي يسمى: "التاريخ"، تمتلكُك رعشةٌ غريبة عندما تُدركُ أن ما ظننت أنهُ تاريخ و ماضي ليس سوى حاضر تُعايشهُ كل يوم، لتتأكد كل مرة أن التاريخ لا يُعيدُ نفسه إلا في شكل مأساة.

    رُبما لن نجد في التاريخ الحديث مأساةً أكبر من مأساة الموريسكيين الذين تم طردهم سنة 1609 من إسبانيا، فاتجهوا في رحلة محفوفة بالمخاطر إلى عديد البلدان منها تونس.

    كنتُ أقرأ هذه الأيام في إطار بحثي في الموضوع الموريسكي كتابًا بالأسبانية، هو عبارة عن يوميات موريكسي هاجر إلى تونس، يتحدث عن ما عايشهُ خلال و بعد عملية التهجير، هذا الموريسكي و رغم حرصه الشديد في اختيار الكلمات المُناسبة عند الحديث عن مُضيفيه التونسيين، فأنهُ يفاجئنا في أحدى الفقرات بالإشارة بطريقة غير مُباشرة إلى تواصل محاكم التفتيش في تونس.

    كانت هذه الفقرة كافية بأن تبُث فيّ تلك الرعشة الغريبة، لا لكونها المرة الأولى التي يتحدث فيها أحد الموريسكيين عن هذا الأمر، بل لكون الشبه كبير بين مأساة هذا الموريسكي و مأساتنا اليوم، فهذا الموريسكي كان يظن أن خروجه من "إسبانيا محاكم التفتيش" التي كانت تتعقبهُ من أجل مُعتقده و طعامه و لباسه...، سيمنحهُ الحرية الكاملة، فإذا بمحاكم التفتيش تتواصل في تونس، بطبيعة الحال ليس بنفس الطريقة و التنظيم و لكن بنفس الفكر، أي باسم الدين، و واجب حمايته من البدع و كل الشوائب، واجب هداية الأتباع الضالين إلى الطريق القويم، فقد كان هؤلاء المُدعين يشككون في إسلام الموريسكيين، و يقولون لهم: "من أين جاءكم الإسلام و قد كنتم في بلاد الكفار؟"، كما كانوا يرفضون أدائهم الصلاة باللغة الإسبانية، و هم الذين لا يتقنون غيرها عند قدومهم لتونس.

    رُبما لحسن حظي أو لسوء حظي أستطيعُ أنا التونسي في سنة 2011، أن أشعر بمأساة هذا الموريسكي بعد أربعة قرون، أستطيعُ أن أفهم خيبة أمله في الوطن الجديد، خيبة أمل مُهجر خرج تاركًا ورائهُ كل شيء ليركب قاربًا صغيرًا تتقاذفهُ الأمواج، و تترصدهُ القراصنة، يُمني النفس بالحرية، حُرية كان يظنُ أنهُ قبض عليها أخيرًا من خلال الاستقبال الجيد الذي وفره لهم عثمان داي و تسامح الولي الصالح أبو الغيث القشاش الذي أفتى لهم بإمكانية أداء الصلاة بالإسبانية، كما لم يكن يدقق في تفاصيل عباداتهم و هم المُتشبعين بالثقافة المسيحية-الإسبانية، لكن سرعان من انقلبت الأمور بعد وفاتهما، و عادت روح محاكم التفتيش لتخيم على عالم الموريسكيين في تونس، تبحثُ في صدق إيمانهم، و طبيعة لباسهم، تُحاسبهم على أفكارهم و ترميهم بالكُفر و الزندقة إذا عارضوها.

    هاهي المأساة تتكرر اليوم فعندما ظننا بأننا خرجنا من محاكم تفتيش بن علي التي كانت تفرض على النساء عدم ارتداء الحجاب و على الرجال هندامًا مُعينًا، و كانت تراقب دور العبادة و توظفها لصالحها، و تُقيد حُرياتنا العامة، فإذا بنا ندخلُ تحت رقابة محاكم تفتيش جديدة تكاد تُماهي محاكم التفتيش التي تحدث عنها الموريسكي، فهي تدعي امتلاك الحقيقة، كما أنها تحرصُ على مُعاملة من يختلفون معها على أنهم أما كُفار و جب حرقهم و لو معنويًا، أو أنهم أتباع ضالين وجب هدايتهم إلى السراط المُستقيم.نصبت محاكم التفتيش اليوم في تونس خيامها و حلقاتها في الشوارع، و احتلت منابر الخطاب في الجوامع و وسائل الإعلام، و هي التي لا تختلفُ كثيرًا عن محاكم تفتيش القرن السادس عشر و السابع عشر، فمنطقها واحد و وسائلها واحدة، فهي تنصبُ نفسها وكيلةً لله، تتحدث بأسمه، و تُمارسُ أفعالها بأسمه، فتمنح صكوك الغفران لمن تشاء، و تُبيح دم من تشاء، فمنهج عملها يقوم على البحث في صدق الإيمان، إيمان ليس بحقيقي إلا إذا استجاب لرؤية أعضاء هذه المحاكم الذين يُكسبون أنفسهم قداسةً و علوية على بقية أعضاء المُجتمع، قداسة يستمدونها من هيئتهم الخاصة، و ورعهم الظاهر، قداسة يجعلونها تؤهلهم بأن يتقاسموا مع الله صلاحياته في العقاب و الجزاء، في تحديد المؤمن الصادق و المُنافق.

    و لعل الغرابة أو المأساة تتكرر كل مرة بنفس الطريقة مُحافظةً على ابسط تفاصيلها، ففي حين كانت محاكم التفتيش الإسبانية تهتم كثيرًا بلباس الموريسكيين حتى أنها في بعض التقارير منعت النساء من وضع "الخمسة"، كان التونسيون يشككون في صدق إيمان الموريسكيين نظرًا لأنهم كانوا يرتدون ملابس أسبانية غريبة عنهم، و هاهو الأمر يتكرر فمحاكم تفتيشنا اليوم، تُقييم مدى إيمان الأفراد من خلال لباس مُعين، ستحرصُ على فرضه و لو بعد حين.

    و كما كانت العامة أو ما تسميه الوثائق الأرشيفية: "المسيحيون القدماء" يُباركون أعمال محاكم التفتيش تجاه الموريسكيين، من خلال الوشاية بهم أو من خلال السب و أصوات الاستهجان التي يطلقونها في حفلات الإعدام و التعذيب، فأن العامة اليوم أو ما يمكن تسميتهم "بالمسلمين القدماء"، يواصلونُ نفس نهج مُباركة نشاط محاكم التفتيش المُعاصرة، غير مُدركين أن مصيرهم لن يكون أفضل من مصير "المسيحيين القدماء"، الذين أصبحوا هدف هذه المحاكم بعد أن أتمت مُهمتها مع الساحرات و الموريسكيين


    2011/05/01
    الكيخوتي
    • تعليقات بلوجر
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    Enregistrer un commentaire

    Item Reviewed: بين محاكم تفتيش القرن السابع عشر في تونس و محاكم تفتيش 2011 Rating: 5 Reviewed By: @HosQuijote_الكيخوتي
    إلى الأعلى