• اخر الاخبار

    سهرة فلامنكو ساحرة في مدريد

    لم تكن مصادفة، دعتنا أحدى الصديقات لذلك المطعم الواقع في ركن قسي من مدينة مدريد القديمة، غير بعيد عن "الموريريا"، أو الحي الذي أنحشر فيه أخر سكان المدينة من المُسلمين. كان لقائنا للاستماع إلى ذلك الفن الساحر، إنهُ "الفلامنكو".


    دخلنا المطعم عندما كانت تُشير الساعة تقريبًا إلى التاسعة، أين وجدنا الأصدقاء ينتظرون، خوسيه إميليو من جهة أشبيلية لكنهُ يعيش في سرقسطة، عاصمة الفن المودخر، و زوجتهُ الشقراء من مدريد، أمبارو دليلتنا إلى هذا "المكان السري"، و العاشقة للشرق، بالتحديد بهية التي تزورها أكثر من مرة في السنة، بالإضافة إلى صديقي خوسيه الذي أضحى جدًا منذ أشهر قليلة، أندلثي، عاشق لهواء أندلثيا و ثقافتها، حارب فاشية فرنكو و سجن، و أجزمُ أنهُ يعرفُ عن العرب و المسلمين أكثر من العرب أنفسهم، و أنا التونسيُ القادم من ضفة المتوسط الجنوبية.


    سألنا النادلة هل هناك فلامنكو اليوم، فأجابت بربما، ففي هذا المكان العرضُ غير منظم، فالمغنون و عازف القيثارة يأتون متى شاءوا، فالأمر ليس بمهنة، بل هكذا تتم لقاءات الفلامنكو التقليدية و هكذا نشأ كما وقع إخباري.


     نزلنا إلى الصالة الصغيرة، حيثُ عزمنا على أن نُجرب حظنا، لم ننتظر كثيرًا، حتى جاءت الرفقة، عازف القيثارة، فتاة    و جماعة آخرين لا يتجوزون الخمس أفراد، بدأ الشاب في تعديل أوتار قيثارته، في حين أنطلق أحدهم و الذي عرفتُ فيما بعد أنهُ مُغني فلامنكو محترف، يخبرنا عن أفضل الأماكن و أسوئها للاستماع للفلامنكو.


    عُدلت الأوتار، من سيبدأ في الغناء؟ أنت لا أنت...، و في الأخير أنطلق المُغني المحترف في الغناء بفخر نرجسي بعض الشيء،  و لكن بعشق و إتقان، لم يستطع معهُ إخفاء وطئت السنين على صوته و جسده المُتعب، حيثُ كان بعد كُل مقطع يعودُ إلى مقعده ليسترد أنفاسهُ.


    ثم غنى أحد الشباب الحاضرين، الذي لا يعكسُ صوتهُ العذب ضخامتهُ، أوليه، أوليه رائع، رائع...و الآن جاء دور ليذيا التي أخبرتنا دليلتنا بروعة أدائه، و هو رائع حقًا، كانت كلما تغني تحملُنا إلى عالمٍ آخر، إلى سهول كاستيا أو طليطلة حيثُ تجولُ قطعان الأحصنةً الغير مروضة، أو إلى ساحة مصارعة الثيران بأشبيلية، فكأن العازف هو المصارع و القيثارة ثورٌ عصيٌ عن الترويض، فتارةً يأخذها بعُنف و طورًا يحاولُ مُجاراتها.


    بين الأغنية و الأخرى يستردُ المغنون و العازفُ أنفاسهم، أما نحنُ أو هكذا بدا لي فنبقى في ذلك العالم السحري، الذي يُدهدهنا بين صوت المُغنية و أدائها الرائع، و عازف القيثارة و ذلك التصفيق المُتناسق للرفقة.


    كان بين الحين و الآخر يأتي بعض الزائرون، و من بينهم كانت سحر التي بدا مظهرها غجريًا للوهلة الأولى، طلبت من عازف القيثارة أن يعزف بين المقام الثاني و الرابع أو شيء من هذا القبيل، ثم بدأت في الغناء، بلغة بدت لأصدقائي عربية، الذين سرعان ما نظروا إلي علي فهمت ما تقول، فأشرتُ برأسي بأنها ليست عربية، ثم همس صديقي أنها عبرية، لا هذا و لا ذاك أنها أغنية فارسية قديمة قامت بمزجها المغنية كما أخبرتنا مع الإسبانية.


    روحُ الشرق الفارسي، السري و المليء بعديد الأحكام المُسبقة و الفلامنكو، مزيج عظيم و ساحر حين يمتزجُ بذلك الأداء   و العشق، فيحملُك من قم، إصفهان و همدان  إلى  غرناطة و قرطبة، يعبرُ بك كما كانت تفعل القوافل التجارية عبر تركيا أو العراق في اتجاه كل بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط.


    تغني ليذيا فتجيبها سحر، مختزلتان قرونًا من الروابط  بين الشرق و الغرب، الممزوجة بالسلم و الحروب، تختزلان في صوتهما كل ليالي المُريدين لهذا الفن العظيم الذي مازالت إلى اليوم قصةُ نشأته غامضة، فهل هو عربيٌ كما يرى البعض؟ فيقولون بأن كلمة "أوليه" هي تحريف لكلمة "الله"، التي مازلنا نقولها عندما يُطربنا أحدهم، أو كلمة "أكوا" التي كثيرًا ما تترددا في مجالس الفلامنكو لتشجيع المغني، فيقولون بأنها كذلك تحريفٌ لكلمة "أقوى"، أما أنهُ نشأ كفن هامشي في مجتمعات الغجر؟ ربما هو هذا و ذاك و أشياء أخرى، تختزلُ جغرافية و تاريخ هذه الأرض، أما نحن فعدنا عبر الأزقة و الشوارع الفارغة في حالة من النشوة الغريبة نحاولُ أن لا نقع من سماء حُلم هذه الليلة الساحرة.


    الكيخوتي

    23/07/2012
    • تعليقات بلوجر
    • تعليقات الفيس بوك

    2 comments:

    1. l'Identité rhizome ou le futur d'une "tout monde" en devenir...Merci pour la fraîcheur de cette émotion partagée.

      RépondreSupprimer
    2. للاستزادة
      http://www.youtube.com/watch?v=fShDerlcFDc
      http://www.youtube.com/watch?v=G6gVOQuFy80
      http://www.youtube.com/watch?v=x0OlPE2m4u4
      http://www.youtube.com/watch?v=YYmg7GmmXPE

      RépondreSupprimer

    Item Reviewed: سهرة فلامنكو ساحرة في مدريد Rating: 5 Reviewed By: @HosQuijote_الكيخوتي
    إلى الأعلى